عبدالله اوجلان حول الاقتصاد -12

الفصل الرابع 

الرأسمالية ليست اقتصاد بل هي عدوة الاقتصاد

ي- مكانة اليهود في الاقتصاد ضمن العصر الرأسمالي.

كلُّ مفكرٍ معنيٍّ بتاريخِ الحضارة والمدنية، ينتبه فوراً إلى عدمِ مقدرته على طرحِ تقييمٍ قدير، ما لم يَلتفتْ إلى دورِ اليهود فيها. ونظراً لكوني التمستُ الموضوعَ بين الحين والآخر على شكلِ مسودة في مرافعتي السابقة بسببِ معلوماتي المحدودة، فإني مضطرٌّ للاكتفاءِ بموجزٍ جِدِّ مختزَل.

كلُّ البَيِّنات تشير إلى أنّ الهويةَ المسماةَ إبراهيم (المعلومات المتعلقة بهويةِ سيدنا إبراهيم، والمُجْمَعُ فيها على أنه سَلَفُ الأديانِ الإبراهيمية، إنما تَلُفُّها الحياكةُ الميثولوجية مثلما الحالُ في سيدنا عيسى وسيدنا موسى. لذا ثمة حاجةٌ للبحوثِ السوسيولوجية الشاملة لإظهارِ الحقيقة بسطوعٍ أكثر) لم تتفاهم براديغمائياً مع نماردةِ بابل (وهم أشبَه بوالي الإقليم)، الذين يُشَكِّلون حُكّامَ أورفا الحالية، أو على الأقل، وإنْ كان ثمة أسبابٌ أخرى، فقد عُكِسَ الأمرُ على هذه الشاكلة. تَسرد القصةُ الميثولوجية الموضوعَ على النحو التالي: يَقومُ سيدنا إبراهيم بتحطيمِ هياكلِ الأصنامِ الوثنية الموجودةِ في مجَمَّعِ الآلهة إشارةً منه إلى استحالةِ أنْ تَكونَ آلهة، ومن ثم يُعَلَّق بالرافعة على قلعةِ أورفا لِرَميِه في النار المندلعةِ في أكوامِ الحطب، لكن، وبمجردِ رميِه تَتَحَوَّلُ النارُ إلى بحيرةِ ماء، ومنها تَشَكَّلَت بحيرةُ السمك Balıklı Göl الحالية.

يُرجَّح احتمال أنْ يَكُونَ خطُّ الوصل بين أورفا والقدس بمثابةِ منطقةٍ حدوديةٍ محايدةٍ تتوسط أراضي القوتَين العظيمتَين في ذاك العصر: مدنيةُ السلالةِ المصرية الجديدة، وسلالةُ حمورابي البابلية السومرية. ولأولِ مرةٍ في التاريخ تبلغ التجارةُ مستوى قطاعٍ اقتصاديٍّ مُتَنامٍ ومتصاعد. وربما كانت التجارةُ فيما بين كلتا المدنيتَين تؤدي دورها على السياسة، حيث تتسارع وتيرةُ وفود التجار بينهما. هذا ويتقاطع عصرُ الآشوريين التجاري بكلِّ بهائه مع هذه الفترة. علاوةً على أنّ خطَّ أورفا – القدس – دمشق – حلب يمثل مساراً بالغَ الأهمية منذ العصور الأولى (منذ ولادة النيوليتية وتأسيس أول مدينة) من حيث الهجرة، التجارة، الاحتلال والغزو. والأهمُّ هو أهميته من حيث التبادل الديني، حيث ليس مصادفةً أنْ تَكُون هذه المناطقُ هي التي شهدت انطلاقةَ سيدنا إبراهيم وأولى هجراته. ومعروفٌ بشكلٍ ملفتٍ أنها خطُّ الانطلاقات الأولى لكلٍّ من المسيحية والإسلام أيضاً. سيدنا إبراهيم (يُعتَقَد أنّ المصريين هم الذين أَطلَقوا هذا الاسمَ عليه كَلَقَب. كما أنّ المصريين كانوا يُسَمّون الوافدين عن طريقِ صحراءِ سيناء بـ”العابيرو” إشارةً منهم إلى الغبار والوسخِ الذي يُلَوِّث ملابسَهم. بالتالي، يغلب الظنُّ أنْ اسمَي العبرانيين وإبراهيم مشتقان من لفظِ عابيرو مع إطراءِ التحوير والتحويل عليه) يسعى أولاً للإقامةِ والمكوث بالقرب من القدس، التي تُشَكِّل أراضيَ إسرائيل وفلسطين اليوم. لكنّ الإداراتِ المحليةَ لا تأذن له بهذه السهولة. يُقال أنه امتلك مُلكاً زهيداً، وهناك لَقِيَ حتفه. ومن أراد، بإمكانه من خلالِ الكتب المقدسة (العهد القديم، العهد الجديد، والقرآن) متابعةَ القصة المبتدئة بأقاصيصِ سارة، هاجر، إسماعيل، إسحاق، ويعقوب، والمستمرةِ مع سيدنا موسى وعيسى ومحمد، والحلقةِ المستمرة بمئاتٍ من الأنبياء الآخرين. وقد تَكُون الآلافُ من الكتب التاريخية والقصص والرواياتِ الجانبية أيضاً مفيدة. لكني أكتفي بعدةِ مراحلَ بخطوطها العامة جداً للإشارة إلى ما أرمي إليه:

أ‌- المرحلة الأولى: قصةُ إبراهيم في أورفا والانطلاقة والخروج، حيث هو رئيسُ قبيلةٍ وتاجر. يُحتَمَل أنها الفترة فيما بين 1700 – 1600 ق.م.

ب‌- مرحلةُ الأسر في مصر فيما بين 1600 – 1300 ق.م.

ج- الخروجُ والانطلاقة بزعامةِ سيدنا موسى فيما بين 1300 – 1250 ق.م.

د- السكنُ والاستقرار في أرضِ الميعاد فيما بين 1250 – 1200 ق.م (مرحلة القائد وسيدنا يشوع النبي).

هـ- مرحلةُ الزعماء والحكام فيما بين 1200 – 1000 ق.م. وهي فترةُ العلمانيين والقادة الدينيين (الكهنة) الذين لم يتحولوا بعد إلى ملوكٍ أو أنبياء، والمستمرةُ حتى عهدِ المَلِك الأول صاؤول.

و- مرحلةُ ملوكِ اليهود وإسرائيل فيما بين 1000 – 700 ق.م. وهي الفترةُ المبتدئة مع صاؤول، داوود، وسليمان، والمنتهية مع حزقيال (الاحتلال الآشوري).

ز- مرحلةُ الاحتلال والاستعمار والغزو والتحكم والمقاومة والنفي فيما بين 700 ق.م – 70 م (عصر هيمنة وسيطرة وغزو الآشوريين، البابليين، الإسكندر، والرومان).

في هذه المرحلة تنهار المملكةُ اليهودية أو الإسرائيلية، لِتَحُلَّ مَحَلَّها مجموعتان بارزتان، إحداهما مقاوِمة، والأخرى متواطئة. تتبين ملامحُ المتواطئين كمجموعتَين أساسيتَين مواليتَين للإغريق والبرسيين. والسبيُ البابلي الثالث (535 – 495 ق.م) المستمر أربعين عاماً في عهدِ نبوخذ نصر مَلِك البابليين هو الأكثرُ شهرةً بعد الخروج من أورفا ومصر. وقد شهدت هذه المرحلةُ الأحكامَ المنصوص عليها في الكتاب المقدس، والتي يتضح تأثرُها بالزرادشتية بجلاء. ذلك أنّ فترةَ السبي المستمرةَ أربعين سنة قد انتهت. كما أنّ النسخ الأولى المُجَمَّعةَ والمدوَّنة من التوراة تَظهَر في هذه المرحلة، أي بعدَ عام 700 ق.م. أي أنه لم يَكُن ثمة نسخةٌ مدوَّنةٌ ملموسة للكتاب المقدس طيلةَ ما يقارب ستةَ قرون (1300 – 700 ق.م). وهذا ما مفاده أنّ السرودَ المعنية المنصوصَ عليها في الكتب المقدسة الثلاثة ترتكز في أساسها إلى الأقوالِ الشفهية المنقولة بعد مرورِ ستةِ قرون. وهي شبيهةٌ بالأحوال والأقوال التي سكبها كلٌّ من هوميروس وهسيودوس على الورق أثناء المرحلة نفسها في الإلياذة وثيوغونيا Teogonia. أما هدمُ الرومان لِهيكلِ سليمان مرتَين حوالي 70 ق.م – 70 م، ففتحَ الطريقَ للمقاومات الكبرى. كذلك، فالمسيحيةُ هي تقاليدُ المقاومةِ للشرائحِ المتخبطة في الفقر المدقع. علاوةً على أنّ مقاوماتِ الطبقةِ العليا أيضاً ذائعةُ الصيت، من قبيل المكابيين .

وتزداد وتيرةُ الشتات (الدياسبورة) ، أي تَشَتُّتُ القبيلة أو القوم خارجَ الوطن، بعد أعوام 70 م. ومثلما حصل الشتاتُ بين صفوف القاطنين في ظلِّ الثقافات الآشورية والأرمنية والإغريقية، فقد تَرَكَّزَ أكثر في أراضي الإمبراطوريتَين الرومانية والإيرانية بشكلٍ أساسي. تُسمى هذه المرحلةُ الطويلة في الوقت نفسه بِعصرِ الكُتَّاب. أي أنّ جمعَ التوراةِ وتفسيرَه قد حصل أثناءها. ويَبرز الأنبياءُ أيضاً خلالها، إلا أنّ مهنةَ الكتابة تتقدمها أهميةً. وهذا ما معناه أنّ المستوى الفكريَّ الرفيعَ في الثقافة اليهودية يرتكز إلى تقاليدَ تاريخيةٍ بالغةِ الأهمية. ويبدو أنّ المهنةَ الأخرى الهامة لديهم هي الانشغالُ بشؤونِ المال والتجارة. فانهماكُهم الدؤوبُ بشؤونِ التجارة، وبالمال الذي هو الوسيلةُ المؤثرة فيها، إنما هو على صلةٍ كثيبةٍ بعدمِ توفرِ الإمكانيات للارتزاقِ اليسير من الأراضي الزراعية. انطلاقاً من هذا السبب، بالإمكان القول أنهم حَلّوا مَحَلَّ الآشوريين، واستحوذوا على الاحتكارِ التجاري والمالي في الشرق الأوسط. وبينما جعلهم هذا الوضعُ مقتدرين ومتمرسين ظافرين للغاية بأرباحهم في مدنِ العصور الوسطى وفي لندن وأمستردام اللتَين تُشَكِّلان مهدَ الرأسمالية؛ فهو في الوقت عينه يشير إلى استنادِهم إلى تقاليدَ تاريخيةٍ طويلةِ الأمد في بلوغهم مستوى المستثمِرين الكبار. ويُخَمَّن أنهم بَقَوا مدةً قصيرةً في القدس وأطرافها، وتَشَرَّدَ غالبيتهم في بلاد المنفى. وهكذا ستَبرز للوسط الثقافتان الهامتان على شكلِ الشتات الشرقي والشتات الغربي في قصةِ تشتُّتِ وتبعثرِ هذا القوم.

ح- سيَكُون من المناسب أكثر تسميةَ اليهود باصطلاحِ “القوم”، نظراً لخروجهم من النطاق القبائلي تزامناً مع الشتات، وتَجَمّعِهم ضمن عددٍ جمٍّ من المجموعات الثقافية التي تَخَطَّت مستوى القبيلة. ونخص بالذكر أنهم تَجَمّعوا بالأكثر في البلاد العربية، إيران، كردستان، مصر، والأرض الهيلينية، وباتوا مجموعاتٍ يهوديةً معتمدةً على ثقافةِ المنطقة القاطنين فيها. هكذا يغدون شعباً ثنائيَّ الثقافة: الثقافةُ العبرية الأصلية، وثقافةُ المجتمعات التي استقروا ضمنها. وكان هذا الوضعُ سيؤثر إيجاباً وبدرجةٍ رفيعةِ الأهمية على مهاراتهم الفكرية، ذلك أنهم على تماسٍّ مباشرٍ مع جميعِ الثقافات التاريخية العريقة.

ويبدأ عصرٌ مأساويٌّ آخَر مع ظهورِ الإسلام. فالعربُ ينتقلون مع الإسلام إلى إنشاءِ مدنيةٍ تجارية. ولكنّ غالبيةَ الاحتكارات التجارية والمالية في الكثير من المناطق – ومن ضمنها البلاد العربية أيضاً – يتحكم بها التجارُ والصرافون اليهود. من هنا، فالحديثُ المنسوب إلى سيدنا محمد بالقول “أَخرِجوا اليهودَ والنصارى من جزيرةِ العرب” ذو معنى، وإنْ كان مشكوكاً في صحته. يَعُود العداءُ العربي – اليهودي بأصوله إلى أغوارِ التاريخ. فإرسالُ هاجر وابنها إسماعيل كشخصَين منبوذَين إلى المكان الذي تتواجد فيه مكة، مرتبطٌ بالتناقضات القائمة آنذاك بين اليهود والعرب. هكذا، ومنذ ذاك العهد ومصالحُ اليهود والتجار والشيوخ العرب على تنافرٍ ونزاعٍ دائمَين، لتتصاعدَ في راهننا إلى الصراعِ العربي – الإسرائيلي والفلسطيني – الإسرائيلي. هذا الصراعُ النابع من التاريخِ السحيق، والممتدُّ بجذوره إلى ما يقارب 3500 عاماً، تَحَوَّل في حاضرنا إلى صراعِ المدنيات بكلِّ ما للكلمة من معنى.

من الطبيعي نشوء منافسةٍ حادةٍ بين الاحتكارات التجارية ضمن المنطقة. وبناءً على ذلك، تتجلى أمامنا بصورةٍ أسطع أسبابُ إيلاءِ الإسلام الأهميةَ القصوى للتجارة، ودوافعُ العلاقة بين خديجة وسيدنا محمد. وفي المحصلة، كان أمام اليهودِ خياران: إما أن يُعَرِّضوا أنفسهم لمخاطرِ الصهر والتحولِ إلى عملاء مفيدين (المُتَّقون ) للمكوثِ في المنطقة؛ أو أنْ يستسيغوا النفيَ والتشتت في مناطقَ جديدة. في الحقيقة، تتجلى الحالتان معاً لديهم. فقد انفصلَ قسمٌ لا يُستهان به منهم، وزادوا من وتيرةِ هجراتهم التي ابتدأت إلى أوروبا منذ عهدِ الإمبراطورية الرومانية؛ بينما الباقون ظلوا مُتَّقين وأشباهَ أسرى، يَدفَعون الجزيةَ الثقيلة مقابلَ العيش. ويتقدمون بأدوارهم التاريخية (الكتابة والتجارة والصرافة) إلى مستوياتٍ أرفع، لِيَذيعَ صِيتُهم في الحضارة الإسلامية خلالَ العصور الوسطى، وبالأخص ضمنَ مناطقِ إيران والأندلس (إسبانيا). ويَحظَون بإمكانيةِ النشاط والعمل مع العديد من القوى السياسية، لِيَغدوا بذلك جديرين بِلقبِ الشعبِ المتنور والتاجرِ والصراف بما لا يقبلُ الجدل. وهذا السببُ بالذات هو الذي يجعلهم أيضاً هدفَ حقدِ وكراهيةِ مثقفي المجتمعات الأخرى وتُجّارها الكبار داخل جميعِ المناطق التي يقطنونها. إذن، فالعداءُ لليهود يتأتى من تقاليدَ ضاربةٍ بجذورها أعماقَ التاريخ، وله أبعادُه المادية والثقافية والتاريخية البالغة الأهمية.

ط- مع بلوغنا مستهلَّ العصرِ الحديث، نجد أنّ موجةَ الحقد والنفور، ووتيرةَ النفي والتهديد ستتأجج أكثر على اليهود انطلاقاً من تلك الأسباب. ذلك أنّ الرأسماليةَ مدنيةٌ وُلِدَت ونشأت في رحمِ الاحتكار التجاري والمالي. وكلُّ منتفعٍ أو متضررٍ على هذا الصعيد، سوف يشير بالبَنان إلى المثقفين والتجار والصرافين اليهود كحجرِ عثرةٍ أساسيٍّ يعترض دربهم. إنّ اليهودَ وجهاً لوجه أمامَ مفارقةٍ خطيرة. فاحتكاراتُ التجار والصرافين من الأمم الأخرى، والذين تتوافق مصالحُهم مع المستجدات والتطورات الرأسمالية الجارية، سوف يَرَون العناصرَ اليهودية عائقاً معرقِلاً. وبالمقابل، فعناصرُ الزُّرَّاع والحرفيين القدماء من الأمم الأخرى، والذين تتنافر مصالحهم مع تنامي الاحتكارات الرأسمالية، سيَقدِرون – وبكلِّ سهولة – على إبرازِ وجعلِ اليهودي خطراً صوفياً محدقاً. والمفكرون أيضاً، وبموجبِ طبيعةِ تبعيتهم للنظام القائم، فمن مصلحتهم إظهار اليهودية كصندوقِ باندورا  المُعَبَّأِ بشتى أنواعِ السيئات والرذائل. هكذا سوف يَغدو القرنان الخامس عشر والسادس عشر بالنسبة لليهود بدايةً لمرحلةٍ مدينيةٍ جديدةٍ تشهد استعارَ النفي والمذابحِ المنظَّمة (الإبادات الجماعية لليهود) مجدداً، مثلما حصل في سياقِ التاريخ المنصرم.

الجانبُ الغريبُ والمثير في الأمر هو، وكيفما أنّ قوةَ المفكرين والتجار والصرافين اليهود سوف تَكُون العاملَ الأهمَّ على الإطلاق في إنشاءِ هذه المدنية الجديدة؛ فسوف تَكُون الأكثرَ تعرضاً لغضبها وسخطها أيضاً. هذه هي المفارقة. ففي عام 1492، لم يُطرَد المسلمون وحسب من إسبانيا، بل وطُرِدَ اليهود أيضاً بشكلٍ جماعي. فمهما يَكن، هؤلاء هم الذين صَلبوا عيسى. كانت الذريعةُ جاهزةً ومؤثرة، لكنّ الأسبابَ والدوافعَ الأصلية هي كما سردناها. لقد شوهدت سياقاتٌ مشابهةٌ في بولونيا وروسيا القيصرية. ومقابل هذا الوضع، كانت هولندا وإنكلترا ستصبحان في مقدمةِ البلدان التي سيتجمعون فيها حديثاً، والتي سوف يَقصدها كلُّ التجار والصرافين والمفكرين اليهود المقتدرين وذوي الشأنِ على موجاتٍ متوالية. فالإمبراطوريةُ العثمانية – التي هي في حالةِ حربٍ مع المونارشيات الأوروبية – لن تقتصر فقط على قبولِ قسمٍ منهم، بل وسوف تَدعوهم خصيصاً لِيَحتلوا أماكنَهم ويؤدوا أدوارَهم القديرةَ في احتكاراتِ الصرافة والتجارة التابعة للسلطان. ثم تبدأ الهجرةُ رويداً رويداً إلى القارةِ الأمريكية، لِيُعَزِّزوا منزلتهم تصاعدياً داخلَ احتكاراتِ الصرافة والتجارة الشاملة في المدن الألمانية المتنامية حديثاً. لقد سادَ الاستيطانُ والتهجينُ على نحوٍ جذري في هذا البلد.

حتى لو رَبَطَ بعضُ المفكرين الرأسماليةَ بالنزعة اليهودية، إلا أنها مزاعم مبالَغٌ فيها. إنهم مؤثرون فيها. وبطبيعةِ الحال، فجذورُ التأثير المُعَيِّن تتأتى من ظروفِ المجتمع الاستيطاني المستقر. لكن، من غيرِ الممكن الاستخفافَ بالدورِ المُحَفِّز للأقلياتِ القابضة على الزناد. فتأثيرُ أصحابِ البنوك والتجار والفلاسفة اليهود القاطنين في هولندا وإنكلترا عظيمُ الشأن والأهمية، سواءً في تنامي الأوساط الفكرية، أو في بروزِ الرأسمالية كنظامِ هيمنةٍ جديد. فسبينوزا مثلاً من أهمِّ الرموز التي ابتدأت مرحلةَ عقلِ العصر الحديث، وهو من أوائلِ العلمانيين اليهود (ونقصد بهم الشخصيات الخارجة على الكنيسد اليهودي أو المطرودة منه بالأغلب)، ومن أعظمِ مفكري الحرية، حيث أنّ فلسفةَ “الفهم حرية” مَدِينةٌ له بالكثير. كما أنّ القروضَ التي يمنحها أصحابُ البنوك والتجار اليهود إلى دولتَي إنكلترا وهولندا، تؤدي دوراً عظيماً في ظفرهما في الحروب وتَحَوُّلِهما إلى دولتَين قويتَين. كما سيَلعبون دوراً مشابهاً في القارة الأمريكية، وبالأخص بأمريكا الشمالية وحربِ استقلالِ مقاطعاتِ إنكلترا. والكلُّ على علمٍ – أو يجب أنْ يكونوا – بأنّ المفكرين والتجارَ وأصحابَ البنوك اليهود يحتلون مرتبةَ الصدارةِ بين القوى الأولية المؤثرةِ في نشوءِ الولايات المتحدة الأمريكية الراهنة.

 

 

يتبع…..